٣٠ يونيو وما بعدها (الحلقة الثانية)
فصّل المقال السابق في أزمة النظام الجديد/القديم الذي يرأسه الإخوان، وقدم تحليلاً في عدة إتجاهات مفاده أن النظام الحالي هو عبارة عن تحالف سلطوي هش ومتوتر يواجه مشكلات، متزايدة اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً تجعله في مواجهة ذات القوى، التي تحدت نظام مبارك في سنواته الأخيرة، وتسببت في تقويضه في نهاية المطاف. إن المأزق الحقيقي، الذي يبدو أن الإخوان يواجهونه، هو أن مساعيهم للهيمنة على الدولة والمجال السياسي لم تكلل بنجاح يذكر. وأن أحلامهم السلطوية تفوق قدراتهم في ضوء ندرة الموارد المتاحة، وفي ضوء عدم وضوح التحالف الاجتماعي، الذي يتم من أجله إعادة بناء نظام مبارك تحت رعاية الإخوان. باستثناء ذات القوى الاجتماعية المحدودة التي تمكنت من إعادة إنتاج مصالحها كما هي، بعد التخلص من مبارك مع فارق وحيد، وهو تحول الإخوان إلى الطبقة السياسية التي تقود النظام، والتي تسبغ عليه الشرعية، محل الحزب الوطني الديمقراطي.
لقد مر عام منذ تولي محمد مرسي الرئاسة، وكل ما يبدو للقطاعات حديثة التسييس بعد ثورة يناير ٢٠١١، أن صورةً شبحيةً من نظام مبارك، هي التي تحكم البلاد. ولكن بكفاءة أقل، وبشكل ملحوظ. وأن طائفة مغلقة -وهي الإخوان المسلمون ـ عاجزة عن تكوين طبقة سياسية واسعة، يمكن من خلالها إدارة شؤون البلاد. مما أنتج وضعاً إقتصادياً بائساً، مرشحاً لمزيد من التدهور، ودون أفق لإيجاد أية حلول.
أتاحت هذه الأجواء مرة أخرى، في الشهور القليلة الماضية، الفرصة لإعادة بناء الحركة الاحتجاجية التي أطاحت بمبارك. ولكن هذه المرة في مواجهة الإخوان ورئيسهم حديث العهد بالانتخاب. وكان الإبداع الذي تم تقديمه للتواصل مع قطاعات واسعة ـ خاصة في المدن وفي شمال البلاد ـ هو جمع توقيعات من المواطنين تفيد بسحب الثقة من الرئيس مرسي، والدعوة لانتخابات مبكرة. ورغم المبالغات التي تروجها حركة تمرد عن عدد ما تم جمعه، إلا أنه من المؤكد أن عدة ملايين من المواطنين قد وقعوا بالفعل، وأن الحركة تشهد حضوراً كثيفاً وظاهراً في المدن في شمال مصر، والتي كانت معقل الاحتجاجات ضد نظام مبارك في مطلع ٢٠١١، مثل القاهرة والإسكندرية وطنطا والمحلة والزقازيق والمنصورة. وتماشت دعاوى التمرد هذه مع ارتفاع وتيرة الأزمات المعيشية اليومية الناتجة عن تفاقم الوضع الاقتصادي بشكل غير مسبوق منذ اندلاع الثورة، خاصة نقص الوقود من سولار وبنزين وتكرار انقطاعات الكهرباء، مع تصاعد الاحتجاجات الاجتماعية من إضرابات واعتصامات.
ويبدو هنا أن ثلاثة عوامل رئيسية تضع الإخوان في موضع غاية في الحساسية والسوء قبيل الاحتجاجات المتوقعة. أولها هو فشل النظام الإخواني في تقديم أي جديد لمشكلات المصريين، مع ارتفاع التوقعات خاصة بعد الثورة والانتخابات الرئاسية. وفي المقابل كان جل تركيز الخطاب الإخواني على الديمقراطية الإجرائية، وعلى أن الرئيس مرسي قد جاء عن طريق الانتخاب. وثانيها أن التهديد المتوقع يأتي في وقت لم يشدد فيه الإخوان سيطرتهم على أجهزة القمع الرسمية. فحياد الجيش والمخابرات غالب، والشرطة منقسمة بشدة خاصة على خلفية العمليات الإرهابية المستمرة في سيناء والعلاقات المريبة بين الإخوان من جهة وحماس والتنظيمات الجهادية هناك من جهة أخرى. وهو ما حدا بالإخوان إلى التلويح باستخدام ورقة العنف الأهلي عن طريق تقريب الجهاديين السابقين والإرهابيين المتقاعدين، وهو أمر لا يبدو أنه جدي، وهو حتماً لا يصب في تدعيم سلطة مرسي بل يزيد من عزلته، ويضعه على مقربة من تنظيمات إرهابية لا تحظى بشعبية لا في الداخل ولا في الخارج. وأما المسألة الثالثة فهي أن عدم استيعاب الإخوان لمعارضيهم على مدى السنة الماضية قد أثبت أنه عنصر حاضر ومتجدد للاضطراب الذي لا تدفع سوى السلطة ثمنه ممثلاً في التدهور الاقتصادي، ومن ثم سخط المزيد من المواطنين على مجرى الأحداث.
يسعى هذا المقال لاستعراض السيناريوهات المحتملة بعد ٣٠ يونيو في حال نجاح الحشد والتعبئة ضد الإخوان، علماً بأن الرهان الرئيسي من وراء تمرد هو استدعاء القطاعات غير المسيّسة من الجمهور المصري التي قلبت الموازين في ٢٨ يناير ٢٠١١ عن طريق المشاركة في أعمال الاحتجاج. ففي حال خرجت تظاهرات يونيو قاصرة أو مقتصرة على المجموعات المسيّسة فحسب فإن أثرها سيكون محدوداً للغاية، ولن تؤدي في الغالب لإعادة رسم المسار الانتقالي في مصر. ويضاف إلى هذا أن الهدف من وراء تمرد والدعوة لاحتجاجات ٣٠ يونيو كما سبقت الإشارة هو تأزيم الوضع لأقصى قدر ممكن بحيث يصبح استمرار الإخوان في الحكم ـ عبر الدكتور مرسي ـ غير ممكن. وهو أمر مرتهن ولا شك برد فعل السلطة الإخوانية، وبرد فعل أطراف التحالف السلطوي الحاكم وخاصة المؤسسة العسكرية، ومن ورائها الموقف الأمريكي الذي رعى مسار التحول الفاشل للديمقراطية الفاشلة في مصر ما بعد مبارك.
الاحتجاج وحده لا يكفي
يمكن الحكم على مسار التحول السياسي في مصر بعد الإطاحة بمبارك بأنه فاشل، وذلك لأنه بعد إتمام الانتقال من الناحية الرسمية والشكلية بإقرار دستور دائم للبلاد، وانتخاب رئيس جمهورية، وإيجاد سلطة برلمانية تضطلع بالتشريع فإن هذه الترتيبات السياسية لم تكن كافية لإنهاء السيولة السياسية والاجتماعية التي بدأت قبل ثورة يناير بعدة سنوات، وانتهت إلى تحطيم نظام مبارك. إذن فالسيولة مستمرة في مواجهة مؤسسات تتمتع بقدر أكبر من شرعية مبارك، كونها منتخبة. إلا أن شرعيتها لا تزال محل تحد، وهو ما يفتح المجال أمام حركة احتجاجية كتمرد، والحراك المتوقع في الثلاثين من يونيو. بيد أن الاحتجاج وحده لا يكفي، وذلك لأن الجماهير قد فقدت براءتها الثورية، بل إن استمرار السيولة السياسية المذكورة كفيل بدفع الجمهور الواسع إلى قبول إجراءات قمعية لإعادة تثبيت أي قدر من النظام لتسيير شئون البلاد اليومية. ولولا فشل الإخوان الكامل في هذا الصدد لما كان الغضب إزاءهم بهذا الحجم، لأن الجمهور المصري الواسع لا يحمل ولاءً حقيقياً أو حياً لإجراءات الديمقراطية بقدر ما يبحث عن شرعية إنجازية للحكام الجدد، وهو ما لم يجده بعد سنة من وجود مرسي وإخوانه في قصر الرئاسة. ورغم هذا كله فإن الاحتجاج وحده، مهما كان عارماً وواسعاً لا يكفي لإسقاط مرسي، ولإعادة رسم مسار الانتقال السياسي.
إذا ما فرضنا أن الاحتجاج الشعبي في الثلاثين من يونيو قد خرج ضخماً ومنتشراً في المدن على غرار ما وقع في ٢٨ يناير ٢٠١١ في ظل حيلدة الأجهزة القمعية من شرطة وجيش، وأن الأمور قد تصاعدت سواء في اتجاه عنف أهلي (بدأت بوادره بالفعل في مدن الدلتا وفي الفيوم قبل أسبوعين تقريبا من ٣٠ يونيو)، أو في اتجاه عصيان مدني أو إضراب عام على نحو جعل استمرار الحال كما هو عليه غير ممكن بالنسبة للدولة في مصر وما يرتبط بها من علاقات هيمنة اجتماعية واقتصادية وسياسية فما هي المخارج المطروحة؟ قد تتعدد الأطروحات ولكن لا شك أنها كلها تبدأ أو تنتهي عند احتمالات انفصام عرى تحالف الإخوان والعسكر باعتبار أن هذه هي النقطة الأشد رخاوة في هيكل التحالف الحاكم، وباعتبار أن الجيش هو القوة الوحيدة التي يمكن التفاوض معها على إعادة رسم المسار الانتقالي، خاصة وأن المعارضة مجزأة ومقسمة، وبالقطع غير جاهزة وغير قادرة على تولي زمام الأمور. وجل ما يمكن أن تنتجه الحركة الاحتجاجية الآخذة في التشكل هو إنهاء مسار الانتقال الأول الذي بدأ في مارس ٢٠١١، والشروع في مسار انتقالي بديل، ومن ثم إعادة تصميم النظام السياسي.
الانقلاب التصحيحي: تركيا١٩٦٠ نموذجاً
يذكّر المشهد اليوم في مصر بتركيا في نهاية الخمسينيات إبان ولاية عدنان مندريس الثالثة. كان مندريس رئيساً للحزب الديمقراطي، وهو تحالف واسع محافظ تمكن من حصد الأغلبية المطلقة في الانتخابات التركية ما بين ١٩٥٠ و١٩٦٠، وكان ثقل الحزب السياسي مستمداً من الأقاليم في وسط وشرق الأناضول، بينما ظلت المدن الكبرى في غرب تركيا هي معاقل لحزب الشعب الجمهوري كمالي النزعة ـ نسبة لمصطفى كمال أتاتورك. وقد كان الحزب الديمقراطي قد حاز علي نحو ٥٠٪ من الأصوات، وبما أن النظام التصويتي وقتذاك كان يرجح حكم الأغلبية البسيطة ولا يقوم على التمثيل النسبي، فقد حكم الحزب بشكل غير منقطع طوال عقد الخمسينيات. استند الحزب إلى جملة من السياسات الاقتصادية التحريرية التي مكنته من رعاية تحالفاته الاجتماعية والانتخابية الواسعة حتى بدأ الاقتصاد التركي في المعاناة من جملة صعوبات في الميزان التجاري وميزان المدفوعات وفي توفر العملة الصعبة . وهي مشكلة مزمنة تواجهها الاقتصادات النامية، وكانت أشد حدة في الخمسينيات لضعف الموارد وقتذاك وضعف الصلة بالاقتصاد العالمي . واضطر مندريس ووزيرا ماليته وخارجيته للتوسع في الاقتراض من الخارج للإبقاء على ذات السياسات العامة، وللإبقاء على تحالفه الاجتماعي كما هو دون اهتزاز. ومع تصاعد المشكلات الاقتصادية بدأت المشكلات السياسية في الانفجار كذلك. وكان تعامل حكومة مندريس معها قائماً على القمع والتضييق باعتباره حائزاً على الأغلبية، وبلغت الأمور درجة من التأزم في النهاية عجز معها النظام السياسي عن استيعاب وقع الأزمة الاقتصادية من ناحية، وتفجر الخلافات السياسية من ناحية أخرى.
وكانت المحصلة هي قيادة الجيش التركي ـ قيادات وسطى منه ـ لانقلاب عسكري في ١٩٦٠ أطاح بمندريس ـ الذي جرت محاكمته ووزير ماليته وصدر حكم بإعدامهما وتم تنفيذه في سابقة لن تتكرر في تاريخ تركيا الحديث. كان تدخل الجيش التركي محاولة من نخبة الدولة العسكرية لكسر الشلل الذي أصاب النظام السياسي من جراء عدم قدرته على تدارك واستيعاب، ومن ثم حل الأزمات الاقتصادية والسياسية المتلاحقة والمتفاقمة. وكان الإنقلاب بداية لدور تصحيحي فلم يكن الغرض منه ـ لعدم الإمكانية ـ هو التأسيس لحكم عسكري طويل الأجل كما وقع في مصر في ١٩٥٢. ومرجوع ذلك إلى وضع تركيا في إطار الحرب البادرة حيث كان عليها الاحتفاظ بنظام ديمقراطي ـ ولو بصورة إجرائية بحتة ـ حتى يمكنها الانخراط في حلف شمال الأطلنطي في مواجهة الإتحاد السوفيتي. اضطلع الجيش التركي بدور تصحيحي دام لمدة سنتين من الحكم العسكري المباشر تم خلاله كتابة دستور للبلاد (هو دستور ١٩٦١، الذي يعد من أكثر الدساتير ليبرالية في تاريخ تركيا الحديث من منظور إطلاق حرية تكوين الأحزاب والجمعيات والنقابات بقيود أقل). وفي ١٩٦٣ تم عقد أول انتخابات حرة ـ تقوم على التمثيل النسبي للقوى السياسية وتنهي فكرة الأغلبية المطلقة في البرلمان تجنباً لأزمات شبيهة بتلك التي أدت إلى الانقلاب في المقام الأول. وفاز بالأغلبية وريث الحزب الديمقراطي بقيادة تلميذ عدنان مندريس، سليمان ديميريل ـالذي أصبح رئيساً للجمهورية التركية في ١٩٩٤. وكان مسمى الحزب الجديد الذي شكل الحكومة هو حزب العدالة، بتحالف اجتماعي شبيه للغاية بسابقه، وإن كان بنسبة تمثيل أضعف مع اعتماد نظام التمثيل النسبي.
كان انقلاب ١٩٦٠ نموذجاً للانقلابات التصحيحية التي بدأت وانتهت تصحيحية. أي بغرض إعادة هيكلة النظامين الاقتصادي والسياسي بصفة مؤقتة ثم رد الأمور للنخب السياسية المدنية، خلافاً لانقلاب ١٩٥٢ الذي بدأ تصحيحياً بهدف إزالة الملك وتحقيق الاستقلال وإنشاء حياة ديمقراطية سليمة وانتهى إلى حكم عسكري مباشر ثم غير مباشر ونظام أمني طيلة ستين عاماً هو عمر دولة يوليو. استهدف انقلاب ١٩٦٠ في تركيا حل المعضلات التي واجهت النظام الديمقراطي المدني، اقتصادية كانت أو سياسية. وعجز عن استيعابها لأسباب شتى لها علاقة بضحالة الممارسة الديمقراطية ـ التي هي أقرب في كثير من البلدان النامية وبما فيها مصر بعد ثورة يناير ـ إلى سلطوية منتخبة أو تسلط الأغلبية وإلى صندوقراطية، على حد تعبير عمرو عز. فهي تحمل من الديمقراطية الإجراءات فحسب دون ضمانات للحريات والحقوق. وقد تمخض عن دستور ١٩٦٠ إعادة تشكيل النظام السياسي برسم قواعد جديدة للممارسة السياسية، كانت لحسن حظ الأتراك وقتذاك ضماناً لنظام أكثر تعددية ودرجة أكبر من القبول بالتنظيم الأهلي والنقابي العمالي (كان دور الجيش التركي مناقضاً لهذا التوجه تماماً عندما قام الجنرالات بانقلاب سبتمبر ١٩٨٠ وكتبوا دستور ١٩٨٢ الذي قيد حريات المجتمع الأهلي وأهدر حق التنظيم النقابي والحق في الإضراب وغيرها). كما دفع الجيش التركي في الستينيات باتجاه صياغة تحالف اجتماعي قائم على برنامج تصنيع محلي، وتشجيع الطلب الداخلي، ما كان متماشياً بالكامل مع إستراتيجيات النمو والتنمية في تلك الحقبة من الحرب الباردة.
يبدو الوضع في مصر شبيهاً بتلك الحقبة من تاريخ تركيا: نظام سياسي مشلول بالكامل في مواجهة أزمات اقتصادية وسياسية واجتماعية بالغة التعقيد وآخذة في التفاقم. ويضاف إلى هذا أن هناك أغلبية بسيطة تحكم ـ من خلال رئيس الجمهورية حديث العهد بالانتخاب ـ تميل للتعسف في استخدام أغلبيتها، ولديها ميول قمعية ضد المعارضة، وهي بذلك غير قادرة على استيعاب الفاعلين السياسيين المختلفين في إطار مؤسسي يكسر من حدة الصراع السياسي، وينحي خيارات العنف جانباً. وهو ما سبق تفصيله في المقال الأول، ويكون السؤال من هنا هل الرهانات الموضوعة على تفكك تحالف المؤسسة العسكرية مع الإخوان في محلها كمخرج لإعادة تشكيل نظام سياسي يبدو بجلاء أنه غير فاعل وأنه يعاني من شلل شديد لا تتحمله مصر؟
مصر ليست تركيا: عوائق الانقلاب الصريح
بادئ ذي بدء إن السياق العالمي اليوم مختلف أشد الاختلاف عن الوضع في الستينيات أو الثمانينيات من القرن المنصرم. فاليوم انحياز الغرب ـ مركز النظام الرأسمالي ـ للديمقراطية التمثيلية والحكم المدني هو أشد وضوحاً وغلبة خاصة بعد انقضاء الحرب الباردة، ومعها المسوغات الجيوـإستراتيجية والسياسية للتعايش مع نظم قمعية وسلطوية. إذن فدور تصحيحي بانقلاب على الديمقراطية ـ على الأقل من الناحية الإجرائية البحتةـ لن ينظر إليه كخيار يمكن تأييده.= ولا شك أن الدور الأمريكي واضح في كبح جماح المؤسسة العسكرية من التحرك في مواجهة الإخوان على أي نحو كما رأينا خلال السنة الماضية. فالولايات المتحدة لا تريد توريط الجيش المصري في مآزق ومزالق السياسة، خاصة وأنه حليفها الأهم داخل مصر وفي الإقليم ككل. ومن ناحية أخرى طالما راهنت الولايات المتحدة منذ الإطاحة بمبارك على قدرة الإسلاميين عامة، والإخوان خاصة، على استيعاب وامتصاص الحراك الاجتماعي العنيف في بلد فقير الموارد كثيف السكان كمصر.، وهو رهان يبدو أنه يخيب أو خاب بالفعل، ولكن التعامل مع هذا التطور ليس واضحاً بعد. ويضاف إلى هذا وذاك أن الإخوان قد أثبتوا بالفعل قبل القول رغبتهم في خدمة ذات المصالح الأمريكية وأمن إسرائيل وترتيبات الخليج. أنظر التطورات الأخيرة الخاصة بسوريا ـ وهو ما يجعلهم بالقطع حليفاً محتملاً للولايات المتحدة في مقابل إسلاميين آخرين كالسلفيين غير مأموني التوجه ، هذا إذا سلمنا بأن مصير وقدر العالم العربي هو التبدل بين أيدي المعسكرات الإسلاميين المختلفة كما يروّج الكثير من المستشرقين الجدد في دوائر الأكاديميا وصنع القرار الأمريكية. وعلاوة على السياق الدولي فإن المؤسسة العسكرية قد خسرت الكثير في تورطها في إدارة المرحلة الانتقالية إدارة فاشلة أفضت إلى التأزم الذي نعيشه الآن. ومما لا شك فيه أن ضمان القوات المسلحة لمصالحها الاقتصادية في دستور الغرياني ـ شاهين وما تلاه من قوانين مكملة يزيد من دوافع عدم التدخل. حيث إن المؤسسة العسكرية تتمتع بكافة المزايا التي تمتعت بها إبان حكم مبارك، وتخلصت من أعباء إدارة بلد مأزوم كمصر أثبتت الأيام أنها غير قادرة على إدارته بالفعل في السنتين اللتين تلتا الإطاحة بمبارك، بل وتزداد شعبيتها دون فعل واحد مع تزايد تأزم الوضع السياسي، وانفراط عقد الإدارة الإخوانية.
بيد ان هذه نصف الصورة حقاً لأن مؤسسة كالجيش المصري بمصالحها المتشعبة جغرافياً واقتصادياً وديمغرافياً، وبحضورها القوي داخل الجهاز الإداري المركزي والمحلي، وفي قطاعات اقتصادية سلعية وخدمية حيوية، لن يكون بمقدورها الحفاظ على هذا كله والدولة المصرية تتفكك بوتيرة غير مسبوقة، وعلى نحو ينذر بتفاقم الصراع الاجتماعي، وخروجه من حيز الصراع إلى الصدام والعنف. خاصة وأن السلطة الإخوانية الضعيفة تلوح بشكل علني باستجلاب عناصر إرهابية وتسليطها على المعارضين في ضوء افتقادها لولاء الأجهزة القمعية السيادية، بما يشبه التلويح بموقعة جمل كبرى لا يكون قوام جنود السلطة فيها بلطجية بل مؤمنين بعقائد الإخوان الدينية في المقام الأول، وهو ما يعطي الصراع هذه المرة ملمحاً طائفياً أهلياً ينذر بتصعيده وباستمراره، وهو أمر يتناقض تماماً مع الدور الذي لعبه الدور في مصر في العقود الطويلة الماضية وهي الحفاظ على الدولة بما تحمله من علاقات وانحيازات حتى ولو كان مردود هذا التضحية بالنظام السياسي، وهو ما وجدناه في حالة مبارك حيث كانت التضحية به وبنظامه الثمن الذي دفعته المؤسسة العسكرية راضية مقابل صيانة ما كانت تراه أركان الدولة المصرية.
ولكن هذا نفسه مرهون بطبيعة الاحتجاج الجاري الإعداد له ومدى التجاوب الشعبي معه، وعلى قدرة الدولة على الاحتمال. خاصة وأن بدء الاحتجاج يجري خلافاً ليناير ٢٠١١ في ظل وضع اقتصادي شديد السوء ـ كان لدى مبارك في بداية ٢٠١١ ٣٥ مليار دولار احتياطيات أجنبية . أما اليوم فمصر على شفا الإفلاس، وفي الوقت نفسه لم تكن احتمالات العنف الأهلي بهذا الارتفاع. ويضاف إلى هذا وذاك أن استمرار التدهور والصراع على هذا النحو يأتي بعد سنة من انتخاب أول رئيس مدني، وبعد ستة شهور من إقرار الدستور الإخواني. وكلها علامات على غياب أفق لإنهاء الصراع بإتمام المرحلة الانتقالية لأن المرحلة الانتقالية قد انتهت رسمياً، رغم أنها لم تنته بعد فعلياً، وهذه كلها موجبات لإعادة رسم مسار الانتقال بغية التوصل لنظام سياسي جديد ـ أي بقواعد جديدة وبفاعلين جدد ـ يحظى بشرعية أكبر ومن ثم بشعبية أعلى تمكنه من إدارة الصراعات الحالية على نحو سلمي ومؤسسي وتمثيلي، ويمكنه من إدارة الشأن الاقتصادي، وتدارك التدهور الحاصل. إذن مراجعة المسار الانتقالي، وإعادة رسمه مرة أخرى مع فاعلين سياسيين واجتماعيين آخرين هو أمر محتمل. وتحققه مرهون بحجم الاحتجاج الذي يكشف عن قدر وعمق أزمة النظام السياسي الجديد/القديم. بيد أن النقطة الأساسية التي يسعى التحليل لتأكيدها أنه ما من مخرج من الوضع القائم سوى تفكيك التحالف الجامع بين العسكر والأمن من ناحية، والإخوان من ناحية أخرى. هذه نقطة البدء لأي سيناريو بديل للأزمة التي لا تنتهي التي تعيشها البلاد.
بيد أنه من الضروري الأخذ بالاعتبار أن تزايد الضغط على النظام الإخواني الهش، ومن ثم تفكيك تحالفه المتوتر مع أجهزة الدولة، لا يعني ببساطة انقلاباً ًعسكرياً نظراً لكل المحاذير السابق بيانها، إذ أن انقلاباً عسكرياً ينشئ نظاماً سياسياً يهيمن عليه الجيش على غرار ١٩٥٢ ليس مطروحاً على الإطلاق، ولا حتى في أذهان القيادات العسكرية الأشد طموحاً. وليست هناك قوى سياسية حاضرة ترى أن الجيش مخرج على المدى البعيد بقدر ما تراه محطة لابد من المرور عليها لتعديل مسار الانتقال كما كان واجباً المرور عليها لبدء مسار الانتقال السياسي نفسه في يناير وفبراير ٢٠١١. فما هي بدائل الانقلاب الصريح من جانب الجيش في حال ما وصلت الأمور لنقطة اللاعودة، وأصبح تعديل المسار السياسي ضرورة؟
المسار الأول: تعديل المسار من داخل الإطار الدستوري
ثمة خياران رئيسيان يحفظان الإطار الدستوري القائم، ويوفران على الجيش تحمل تبعة الإدارة الرسمية والمباشرة للبلاد. الأول هو إجبار الدكتور مرسي على الاستقالة، ونقل السلطة تبعاً للدستور ـ في ظل غياب مجلس للنواب ـ إلى رئيس المحكمة الدستورية العليا، والإسراع بإجراء انتخابات رئاسية في إطار ذات الدستور. وهو أمر يضع كل الرهانات على شخص الرئيس القادم باعتباره مفتاح تعديل المسار السياسي، وتحقيق قدر أكبر من الاتفاق السياسي بين القوى المتنافرة بما يسمح بإعادة ترتيب الأوضاع فيما بعد. وهذا أمر سيكون محل مناقشة أكثر تفصيلا في القسم القادم من المقال. وأما الخيار الثاني فيتضمن الإبقاء على مرسي رئيساً للبلاد لفترة قادمة مع ما يمكن تسميته بإعادة تشكيل مجلس الوصاية، وذلك بتقويض مقر السلطة الحقيقية ممثلاً في مكتب الإرشاد. وبالأخص في نائب المرشد والرجل القوي داخل الطائفة الإخوانية المهندس خيرت الشاطر، وقد يكون هذا عن طريق فتح ملف مذبحة رفح أو ما يتم الترويج له من قبل الجهات الأمنية والاستخباراتية والإعلام المرتبط بها بأن لحماس دوراً في ثورة يناير، وهو الملف الذي يكشف عن اكتساب الأجهزة الأمنية والعسكرية لأوراق في مواجهات محتملة مقبلة مع الإخوان وبما يشي بتوتر وهشاشة التحالف القائم بينهما، ومن ثم التحرك ضد قيادات إخوانية، ومحاكمتها محاكمة عسكرية طبقاً للدستور باعتبارها تآمرت على الأمن القومي. ويضمن مثل هذا الإجراء إخلاء الساحة من السلطة الحقيقية، وإضعاف الرئاسة الرسمية ـ التي يكاد يجمع غير الإخوان على أنها سلطة شكلية بلا مضمون ولا صلاحيات حقة ، ومن ثم إخضاعها لوصاية من العسكر تشبه علاقة علي كافي بالجيش الجزائري في مطلع التسعينيات، ومن ثم العمل على إيجاد ترتيبات لإعادة تصميم النظام السياسي مرة أخرى في القريب العاجل.
بيد أن كافة هذه السيناريوهات رهن بتوصل العسكر ومن ورائهم الولايات المتحدة إلى أن ثمة حاجة ملحة لإعادة تصميم النظام السياسي بما يدمج المزيد من القوى السياسية والاجتماعية في المشهد، وبما يتيح درجة من الاستقرار وقدراً أكبر من الشرعية للنظام السياسي حتى يستقر، ومن ثم تتجنب البلاد الانحدار اقتصادياً وأمنياً.
المسار الثاني: الدعوة لانتخابات مبكرة والدفع بمرشح توافقي
يجنّب هذا المسار تقلّد الجيش من الأصل للسلطة أو إلقاء التبعة عليه لإدارة المرحلة الانتقالية في وضع خال من المؤسسية والقواعد الدستورية. فطبقاً لهذا السيناريو يضغط الجيش على الإخوان للدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة عن طريق استقالة مرسي، ومن ثم انتقال الرئاسة مؤقتاً لرئيس المحكمة الدستورية لحين إجراء الانتخابات الرئاسية. ولكن الانتخابات في حد ذاتها لا تضع نهاية للأزمة الممتدة التي تواجه النظام السياسي الحالي لأنها قد تنتج أي رئيس يلقى ذات المعارضة مرة أخرى كمرسي نفسه. ومن هنا سيكون من المتوجب على القوى السياسية المختلفة التوصل لتوافق في مواجهة الإخوان في المقام الأول، أي العودة لفكرة المرشح التوافقي الذي طرحت قبل الانتخابات الرئاسية وفشلت الأطراف أو لم ترغب في التوصل إليها. وسيكون هذا المرشح التوافقي خارج المترشحين السابقين للرئاسة لأن صعودهم لسدة الحكم يعني استنفار المعسكر الإسلامي، وسيكون كذلك بعيداً عن مرشح مستقل لا يحظى لا بدعم من الدولة ولا بدعم من أي فصيل سياسي ذي أرضية شعبية. وهو ما يعني أن المرشح التوافقي الوحيد سيكون من المؤسسة العسكرية حتى يحظى بدعم مؤسسة قوية ـ هي الوحيدة محل الإجماع اليوم ـ ومن ثم سيكون المخرج هو الإتيان بجنرال ـ نابليون بالأحرى ـ منتخب ومدعوم من القوى السياسية المدنية والإسلامية (الدعوة السلفية)، وهو ما يشير إلى احتمال تأسيس المجال السياسي ـ الأكثر اتساعاً ـ في مواجهة الإخوان، وهذا إشكال آخر ينبغي الرجوع إليه، والنظر فيه.
سيكون المرشح التوافقي هذا ـ ثم الرئيس ـ بمثابة بوتين السياسة المصرية، واعتراف مبكر لا بفشل الطبقة السياسية المصرية فحسب، بل بفشل مسار التحول الديمقراطي والخروج من تركة دولة يوليو/ كما أن وضع الجيش بشكل يحظى بالشرعية والإجماع في قلب عملية الانتقال ـ هذه المرة من مركز قوة لا ضعف خلافاً لمرحلة طنطاوي ـ يعني تكوين تحالف محافظ يضم بيروقراطيتي الدولة المدنية والعسكرية والأجهزة الأمنية مع النخب السياسية المدنية وقطاع من الإسلاميين. وهو ما أمر سيكون مقدمة لأزمات سياسية مستقبلية تعبر عن الشرائح الشابة في المدن، والتي لا ترغب في إزاحة الإخوان لترميم التحالف الاجتماعي المحافظ الذي فشل الإخوان في إنشائه وصيانته، رغم انتهازيتهم ومحافظتهم، وإنما كانت ترغب في إزالة هذا التحالف ذاته. وهذا الميلاد المأزوم والمتكرر للمسار السياسي في مصر مرتبط أشد الارتباط بإجماع القوى السياسية جميعاً داخل الدولة وخارجها، في المعسكرين العلماني والإسلامي، على عدم إيجاد الأطر المؤسسية لتمثيل المصالح، وللتفاوض حول توزيع السلطة والثروة في مصر بعد الثورة، ولعل هذه القناعات لن تترسخ إلا مع ظهور بديل يعبر عن الثورة كجملة مطالب اجتماعية واقتصادية واضحة المعالم على نحو يجبر فيه أطراف التحالف الاجتماعي ـ البرجوازي التي تتقاتل حالياً على تقديم تنازلات اجتماعية حقيقية تغير من علاقات السلطة والثروة.
الأزمة مستمرة بالإخوان أو بدونهم، أو كما قال تامر وجيه من قبل، يظل الوضع هو صراع على قمة السلطة المهتزة والمهترأة، وغليان في الأسفل ينفجر من وقت لآخر.